تـحدي القـــيادة الافـــريقية بيـن تنظيـر زكـي وواقعيـة ماثـاي - أحمد داود



تؤكد وانغاراي ماثاي فى كتابها افريقيا والتحدى مرارا وتكرارا على أن التحدى الرئيسي الذى يواجه أفريقيا ما بعد الاستعمار هو تحدى القيادة، فالقيادة من وجهة نظر ماثاي هي تعبير عن مجموعة من القيم، ويحدد حـضورها أو الافتقار إليها اتجاه المجتمع، ولا يؤثر فقط على أفعال الأفراد بل على دوافع ورؤى الأفراد والجماعات التى يتكون منها ذلك المجتمع.

فالدول الأفريقية المستقلة كانت ستحقق تقدما ملموسا إذا ما جرى توجيهها من قبل قادة يعملون بدافع الحس الخدمي تجاه شعوبهم، ومن ثم يقوم بنيان الحكم على قواعد سليمة فيكون أساسه المشاركة الشعبية فى تحديد الأولويات التنموية  وعماده الشفافية والمسائلة من خلال مؤسسات تشريعية حرة وقضاء مستقل ومجتمع مدني فعال.

ومن ثم فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما سبب هذا العجز الملحوظ فى القيادة الأفريقية ؟ 

هذا السؤال الذى طرحته ماثاي وقامت بالاجابة عليه بشكل يميل إلى العملية منه إلى التنظير، قام الدكتور رمزي زكي بالإجابة عليه فى كتابه الليبرالية المستبدة بشكل أكاديمي، فكان تناوله لمشكلة القيادة فى أفريقيا ودول العالم النامي عموما بمثابة التأصيل العلمي وتناول ماثاي بمثابة التطبيق العملي، فرأينا أن الجمع بين واقعية ماثاي وتنظير زكي فى مقال واحد أمرا لابد منه إذا ما أردنا فهماً أعمق للقضية موضع النقاش.

ربط زكي بين سوء الأوضاع الاقتصادية فى دول العالم النامي وبين سوء القيادة، فسوء القيادة عند زكي هو نتاج حتمي لتراكمات تاريخية، فسياسات صندوق النقد والبنك الدوليين التى تطبق فى دول العالم النامي من أجل النهوض بها اقتصاديا هي في وجهة نظره أول مشروع أممي متكامل الأركان لإعادة دمج العالم النامي فى الاقتصاد الرأسمالي العالمي وذلك للتغلب على التحديات التى تواجه الرأسمالية، ومن أهمها فائض القيمة الذى أشار إليه ماركـس باعتباره التناقض الرئيسي والتحدي الهيكلي الذى يواجه الرأسمالية.

 ولا يخفي على أحد ما تقوم عليه سياسات الصندوق والبنك من ظلم واضح للطبقات الإجتماعية الفقيرة، حتى أنّ هذه الطبقات تتحمل عبئ الاصلاح وتتجرع ألام التقشف بمفردها. فتخفيض الأجور وتقليص الانفاق على الصحة والتعليم وزيادة الضرائب وغيرها من الاجراءات التى ينادي بها الصندوق ستؤدى لا محالة إلى حالة من السخط الاجتماعي فى البلد المعني بتطبيق مثل هذه السياسات، ومن ثم يعمل الصندوق على خلق ظهير برجوازى له فى هذه البلاد يساعده على قمع الاحتجاجات إذا ما قامت ويعمل علي تبرير سياساته والترويج لها، فقد أفرزت هذه السياسات تحالفات اجتماعية جديدة تعتمد علي كبار التجار والأغنياء وممثلي الوكالات والشركات الأجنبية، فضلا عن النخب العليا من البيروقراطية فى أجهزة الدولة والتكنوقراط المرتبطين بالسطلة، هذا التحالف كما يقول زكي قد أفرز العديد من المنظمات والمؤسسات للدفاع عن مصالحه وأصبح قريبا من السلطة تستمع له وتصغي لنصائحة وتلبي مطالبه.

فقد شهدت دول العالم الثالث على تنوعها وإختلاف ظروفها الداخلية انتفاضات شبه متماثلة إعتراضا على تطبيق مجموعة السياسات النيوليبرالية التى أدت إلى حالة من اليأس الإجتماعي، مما دفع شعوب هذه الدول إلى إطلاق صرخات مدوية فى وجه الأنظمة الحاكمة والمؤسسات الدولية التى ترعي تنفيذ مثل هذه السياسات.
ومن أشهر الإضطرابات والتمردات التى حدثت كرد فعل على سوء الأوضاع الإجتماعية الناتجة عن تطبيق سياسات التثبيت الاقتصادى والتكيف الهيكلي كما تشير تشومسكي فى كتابها عقيدة الصدمة، هي تمردات كاراكاس 1989م المضادة لسياسات صندوق النقد الدولي، اضطرابات الخبز التى إندلعت فى تونس 1984م وفى مصر عام 1977، اضطرابات الطلاب المضادة لبرامج التكيف الهيكلي فى نيجيريا عام 1989م ، اضراب عام وإنتفاضة شعبية ضد إصلاحات الحكومة التى رعاها صندوق النقد الدولي فى المغرب عام 1990م ، عصيان جيش تحرير زاباتا فى منطقة شياباس جنوب المكسيك عام 1993م ، قصف البرلمان الروسي سنة 1993م .

هنا أدرك البنك والصندوق كما يقول زكي فى كتابه الليبرالية المستبدة أنهم فى حاجة إلي نزع ثوبهم الغربي الديمقراطي وخلق نوع من الديكتاتورية فى البلدان المعنية بتطبيق برامجهم، فمع فداحة الأثار الاجتماعية شديدة الوطأة على الطبقة المتوسطة والعمال وصغار الفلاحين، التى تنطوى عليها هذه البرامج، ومع الإصرار على تنفيذ سياسات تلك البرامج وفق أفق زمني ضيق، يكون هناك نزوع واضح لدى السلطة نحو الديكتاتورية وهو النزوع التى يتجلي من وجهة نظر زكي فى القوانين الاستثنائية المقيدة للحريات ومعارضة حق الشرائح والطبقات الاجتماعية المتضررة فى التعبير عن مصالحها والدفاع عنها. كما يؤكد زكي فى موضع أخر من كتابه على خطورة هذه البرامج ومساسها المباشر بسيادة الدولة، فالصرامة الشديدة التى تتميز بها هذه السياسات تحيل عملية صنع القرار الاقتصادى من مستواها الوطني إلى المستوى العالمي (مانحي القروض والمؤسسات المالية الدولية) وهو ما يزيد من ضعف الدولة وتبعية القيادة.

ومن ثم يؤكد زكي على أن سوء القيادة فى الدول النامية التى تأخذ على عاتقها تنفيذ سياسات الصندوق والبنك أمر حتمي، فسوء الأوضاع الاجتماعية المترتبة على تطبيق هذه السياسات يتطلب نوع من القادة الذين يضربون على يد كل من تسول له نفسه بالاعتراض أو الاحتجاج، وقد عرض زكي وجهة نظره فى ثوب يغلب عليه الطابع التنظيري ولم يتعرض للوقائع العملية إلا على استحياء.

أما ماثاي، فقد أفردت لهذا الموضوع فصلا كاملا فى كتابها، وجاءت تسمية هذا الفصل (إرث الويلات) من الدقة بحيث يستطيع القارئ أن يستدل من خلالها على الفكرة الأساسية التى تطرحها ماثاي قبل أن يطأ عقله عتبة الفصل ويشرع فى القراءة.

وترى ماثاي أن البداية الحقيقية لنشأة معضلة القيادة الأفريقية كانت مع عقد مؤتمر برلين 1884-1885، حيث قامت بريطانيا العظمي، وفرنسا، وانجلترا، وايطاليا، والبرتغال وبلجيكا، وغيرهم من الدول الكبرى فى ذلك الوقت بتقسيم افريقيا فيما بينهم. وأيا ما كان الهدف الذى أقامت من أجله هذه الدول الكبرى مستعمراتها فى أفريقيا، فلم تكن الادارات الاستعمارية فى الدول الافريقية معنية بالتنيمة الحقيقة للسكان الأصليين وتمكينهم. وكما تقول ماثاي فقد تعاون بعض الأهالي وبخاصة أولئك الذين لم يكونوا على وفاق مع المؤسسات المحلية، مع الوافدين الجدد، وفى مقابل ذلك جري ترقية أولئك المتواطئين _وكثير منهم من المنبوذين على حد قول ماثاي_ لشغل مناصب الرؤساء، أو الرواد، أو شيوخ الكنسية، تلك المناصب التى ما كان لهم أن يشغلوها على الاطلاق فى المجتمعات التقليدية. 

ومن الطبيعي أن يكون هؤلاء القادة أداة طيعة فى يد القوى الإمبريالية. وقد حكم هؤلاء القادة المستبدون شعوبهم بيد من حديد، وقد فاقوا القوى الاستعمارية فى استبدادهم وظلمهم. كل ذلك أدى إلى تأسيس إدارة اقليمية ظالمة عملت بكل ما أوتيت من قوة على هدم نظم العدالة القائمة وتقويضها. فقد كانت العدالة تتمثل فى البندقية،  ومن ثم جري الترسيخ لنظام حكم ديكتاتوري أخذ يضرب بجذوره فى تربة المجتمع الافريقي مع الوقت. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور حركات الاستقلال فى العديد من الدول النامية بدأت الدول الافريقية فى الاعتقاد خطأً أن الاستقرار السياسي والثراء الاقتصادي سوف يلي الاستقلال تلقائيا.

ولكن ماثاي تشير إلى أن معظم القادة الأفارقة الذين قفزوا إلى السلطة بعد الاستقلال لم يكونوا جديرين بها، وقد خانوا ثقة شعوبهم وانقلبوا عليها. فالأنظمة المستقلة حديثا لم تبذل أى مجهود للاطاحة بالنظم الاستعمارية القائمة. فالاستعمار وإن خرج من على أرض أفريقيا إلا أن علاقاته الاقتصادية والسياسية مع الأنظمة الافريقية الحديثة مازالت قائمة. وفى هذا الشأن تقول ماثاي ما نصه:

" اطمأن مديرو المستعمرات المغادرون إلى أن القادة الذين أمسكوا بزمام السلطة فى نهاية الأمر بالمستعمرات السابقة متعاونون سياسيا مثلما كانوا مطاوعين اقتصاديا، فلم يكن الأمر إلا مجرد تغيير للحرس، وبالنسبة لهؤلاء القادة أمثال عبدالناصر فى مصر، وجوليوس نيريري فى تنزانيا، الذى سعوا إلى التمسك بعدم الانحياز وحاولوا شق طريق مختلف للتنمية فكانوا معزولين، ومذمومين، وحرموا الدعم"
" وفى هذه الأثناء كوفئ أولئك القادة الذين التزموا النهج بالحماية السياسية من مبدرى الانقلابات المحتملين، ومنحوا المساعدة الاقتصادية دونما مساءلة كإتاحة الفرص لهم لفتح حسابات مصرفية سرية أو شراء فيلات باهظة الثمن فى العواصم الأجنبية. وجري تزويد جيوشهم بكل الأسلحة والمعدات التى كانت تستخدم فى أغلب الأحيان لإسكات مواطنيهم. وقد انتهكت هذه الأنظمة الحاكمة حقوق الإنسان وظلت بعيدة عن المسائلة حتى من قبل القوي الاستعمارية التى اعتبرت نفسها مدافعة عن الحرية والديمقراطية. "


 ومن ثم فإننا يمكننا القول أن معضلة القيادة الأفريقية كانت على الدوام مرتبطة بالقوى الاقتصادية الكبري، ففي خلال القرن التاسع عشر جري نهب الموراد الاقتصادية من بلاد العالم النامي من خلال الإستعمار العسكري المباشر كما أوضحت ماثاي، ولكن مع تغير أوضاع الاقتصاد العالمي خلال النصف الثاني من القرن العشرين ومع نتهاء الحرب العالمية الثانية، أصبحت الرأسمالية العالمية فى حاجة إلى أليات جديدة يمكن من خلالها تطويع بلدان العالم النامي لخدمة المراكز الرأسمالية الصناعية، وقد تم ذلك كما يقول ذكي من خلال استحداث سياسات التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي، التى كانت كما أسلفنا بمثابة أول مشروع أممي يهدف إلى إعادة دمج بلدان العالم النامي فى المتروبولات الرأسمالية الصناعية. ومع ذلك فقد حققت بلدان شرق أسيا قفزات اقتصادية هائلة منذ أواخر ستينيات القرن العشرين وهو ما يمثل شذوذا عن القاعدة التى سارت وفقا لها معظم بلاد العالم النامي منذ نهاية الحرب العالمية التانية. ووجهة نظرنا هي أن هذه الدول لم تسمح لصندوق النقد والبنك الدولي أن يتدخل فى شئونها الاقتصادية الداخلية، وعندما تدخل كان تدخلا مقيدا من قبل حكومات هذه الدول، ناهيك عن أنّ دول شرق أسيا كانت ومازالت بعيدة عن رحي الصراع الدائر فى شمال افريقيا والشرق الأوسط، وهو ما مكنها من العمل فى الخفاء حتى تمكنت أخيرا من تحقيق تنميتها الخاصة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة فى كتاب " افريقا والتحدي " (1) - أحمد داود

دولة المعاتيه - أحمد داود