دولة المعاتيه - أحمد داود


فى كتاب دولة المعاتيه لمصطفى العباسي ذلك الشاب الذى سأم الواقع المصرى بكل ما فيه من سخافات بدأت تتراكم فى سماء حياته منذ صغره حتى صارت كثفا وعندما بدأت هذه السخافات تتساقط بغزارة دونما انقطاع قرر أن يركب موج البحر مغامرا بحياته هروبا من نخبتنا العقيمة وبيروقراطيتنا المدمرة لكل طموح المحاربة لكل عقل مستنير المجتثة لكل نابتة فكر

سافر فى رحلة غير معلوم مآلها فإما أن تبتلع أمواج المتوسط جسده وتتقاذفه أمواجه العاتية حتى يستقر أشلاءً فى أمعاء حيتان المتوسط التى تترقب مثل هذه الوجبات المصرية الشهية عند كل صباح . وإما أن ينجو بحياته من غياهب البحر ليبدأ رحلة من المعاناة فى بلد لا يعرف من شأنه إلا النذر اليسير فإن كانت احتمالية نجاته من الموت غرقا ضعيفة فإن احتمالية نجاته من خطر الترحيل أشد ضعفا

كانت رحلة قوامها المغامرة وعمادها الكره ، كره نخبتنا الكسيحة وإدارتنا المعوقة ، كره الواقع المصرى الأليم ، كره الوطن الذى يعاملك معاملة ابن الزنا ويستهجنك استهجان المجذوم . كره الألية التى تداربها الأمور فى مصر ، ألية البركة وقراءة الكف وحسن الطالع ألية الوساطة والرشوة ، ألية شخلل علشان تعدى. كانت رحلة بحث عن الموت هربا من واقع مؤلم بل وإن شئت قل مميت لكل صاحب فكر وبصيرة

هذا الشاب المصرى الذى جاهد الفقر والجوع وتكبد ألم الحرمان حتى أتم دراسة الفيزياء والكيمياء فى جامعة الأزهر المصرية لم يكن أبدا من الشكائيين البكائيين لذلك لم يبكي حال الدولة ولم يقف عاجزا راميا باللوم على حال الدولة وعلى الظروف . لذلك بدأ فى قرع أبواب العمل بعد أن أتم دراسته الجامعية حتى أن بابا واحدا لم ينجو من دقاته ، ومع أن أبواب الصحافة والإذاعة لم تكن من نوع الأبواب المتعلقة بمجال دراسته ولكنه طرقها هي الأخرى ولكن الأبواب جميعها كانت موصدة والطرق جلها كانت شائكه أمامه ، لم تكن موصدة لعجز منه عن استيفاء متطلبات القبول بمثل هذه الوظائف لكنه كان كارها لطريقة إدارة الأمور فى مصر ، كان كارها للروتين والبيروقراطية كان كارها لنفخ الجوخ والأكل على موائد الحكام

لذلك قرر أن يخوض رحلة الموت هذه مهاجرا بلا عودة إلى ايطاليا منطلقا إلى روما باحثا عن فرصة لتحقيق الذات ، باحثا عن الانسانية والكرامة ، باحثا عن فرصة لحياة حقيقية لم تتوافر له فى مصر

لن أستفيض فى حجم المعاناة التى تحملها منذ أن وطأت قدماه أرض روما إلى أن حقق حلمه وأصبح طالبا يدرس العلاقات الدولية فى جامعة سابينزا بروما . ولكنى أود أن أعرض عليكم موقفا من كتابه استرعى انتباهي

يقول فى كتابه دولة المعاتيه : أنه حاول الالتحاق بمدرسة لتعليم اللغة الايطالية حتى يجيد اللغة إجادة تامة تمهيدًا لإلتحاقه بالجامعة وحتى يكون على أهبة الاستعداد للدراسة الأكاديمية الصعبة ، فى ذلك الوقت لم يكن وجوده فى روما بشكل رسمى وكان ذلك سببا كافيا لاستبعاده وعدم قبوله فى المدرسة ، لكن مدير المدرسة رأي فى عين الشاب المصرى بريق الأمل والشوق إلى المعرفة خاصة أنه علم بقصته بداية من دراسته للفيزياء والكيمياء فى مصر وصولا إلى هجرته عبر البحر إلى روما . فقال له كلمات من ذهب :
"
قال له لطالما التزمت بالقانون لمدة خمسة عشر عاما هي مدة تواجدى فى ذلك المكان ولكنى إن التزمت بالقانون هذه المرة سيلازمنى الندم طيلة عمري

وتم قبول الشاب المصري مع أنه غير متواجد بصفة رسمية فى البلاد

أما هنا فى مصر ، فقد يتم تدمير حياة شاب متفوق وأستاذ جامعى متميز بجرة قلم من مسؤول متهور . حسابات الضمير ومراعاة الأخر ليست فى حسابات مسئولينا ، حسابات العلم وتقدير العلماء ليست على رأس أولوياتنا كما هي على رأس أولويات مدير المدرسة فى روما .

ترحموا على هذا البلد ، ترحموا عليه عندما يتولى أمره كل سفيه ، ترحموا عليه عندما يُسجن العالم ويحارب فى أهله فى الوقت الذى يرتع فيه حملة المباخر ونافخى الجوخ عبثا غير مراعين لمقدرات هذا الشعب وموارده غير مراعين لحرمة الحياة العائلية منتهكين كل حدود الانسانية .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة فى كتاب " افريقا والتحدي " (1) - أحمد داود

تـحدي القـــيادة الافـــريقية بيـن تنظيـر زكـي وواقعيـة ماثـاي - أحمد داود