عالم بلا فقر، رحلة بين ضفتي كتاب - أحمد داود



بعد قراءة متعمقة إستمرت قرابة الشهرين لما كتبه البروفسير محمد يونس فى كتابه عالم بلا فقر، يمكنني أن أقول أن محمد يونس لم يكن أستاذا تقليديا يسعي إلى منصبا رفيعا ليمتطيه إلى ركام الدنيا الزائل ولكنه كان صاحب رسالة سعي لتبليغها سيعا حثيثا وبذل فى سبيلها النفيس قبل البخس، وبالكثير من الصبر والعظيم من الحلم الأناة استطاع يونس أن يخطو بعزيمة كالجبال خطوات ثابتة فى طريق القضاء على الفقر، وما لبثت مع الوقت أن استحالت خطواته قفزات شاسعة، فها هي تجربة بنك جرامين يتم استنساخها فى الفلبين والصين والهند بل والولايات المتحدة الأمريكية.

بدأ يونس عمله كأستاذ للاقتصاد فى جامعة من جامعات الولايات المتحدة الأمريكية ثم عاد إلى بنجلاديش فور استقلالها ليعمل كرئيس قسم الاقتصاد فى جامعة بنجلاديش، كان يقول أنه سئم الحياة الأكاديمية لما تنطوي عليه من تناقض صريح مع الواقع الذي يحياه الناس، ففي الوقت الذى يُدّرس فيه نظريات التنمية التى تحتوى على مبالغ بمليارات الدولارات داخل قاعات الدرس المكيفة يتضور الفقراء جوعا خارج أسوار الجامعة. وعندما قرر يونس النزول للشارع لتقصى أحوال الفقراء وجد نفسه أمام نوع جديد من علم الاقتصاد لا يمكن لأحد أن يتعلمه من الكتب، إنه اقتصاد الواقع الملئ بالفقر والبوئس، ذلك الاقتصاد الذى تتضور فيه أسرة بأكملها جوعا لأنها لاتمتلك بضع دولارات.

فقرر يونس المساعدة، وبدأت رحلته الطويلة والشاقة مع بنك جرامين، وهو بنك للاقراض بالغ الصغر والذي لا يتطلب من الفقراء أن يقدموا ضمانا عينيا كذلك الذى تطلبه البنوك التجارية.
كانت الرحلة جِدُ شاقة، وكان الطريق جِدُ طويل. فقد كانت التحديات كثيرة والمسئولية ثقيلة، فيونس لم يعمـل كمصرفي قط، ناهيك عن شباك البيروقراطية المنسدلة على طول الطريق والكوارث الطبيعية متكررة الحدوث فى بنجلاديش، إلا أن التحدى الأساسي الذي تعين عليه مواجهته هو ثقافة الشعب الآسنة ومعتقداته الراكدة. ففي طريقه لتخفيض معدلات الفقر وانتشال الفقراء من مستنقع العوز حقق يونس انجازات ملموسة على الصعيد الثقافي والديني قلما يلتفت إليها أحد.

فالشعب متدين، ونسائه متمسكات بالبردة. وهي عادة استقر الأخذ بها لفترات طويلة فى بنجلاديش، ومضمونها أن النساء لا يعملن خارج المنزل، ولا يتكلمن مع الغريب من الرجال بغير وسيط.
ففي يوم من الأيام نزل يونس إلي قرية جوبرا ليتحدث مع النساء بشكل مباشرة لإقناعهن بضرورة الاقتراض من بنك جرامين، دخل يونس ومساعديه على أحد النساء ليتحدث معها ويسمع منها، فما أن رأت المرأةُ يونسَ فرت هاربة فى لمح البصر، وكان الحل هو أن تقوم احدى موظفات البنك بالتوسط بيه وبين النساء وتقوم بنقل أسئلة النساء إلى يونس والعودة إليهن بالإجابة، وبينما الوضع على ذلك بدأت السماء فى البكاء، واشتد المطر، ويونس فى الشارع لا يجد ملاذا يلوذ به. وبالطبع لم يكن بالامكان أن يدخل أحد البيوت ليتخذ سقفه الخشبي حائلا بينه وبين المطر.

فها هو رئيس قسم الاقتصاد فى الجامعة يشن حربا ضروس على العادات والتقاليد والمعتقدات الدينية السائدة، ليكون بمثابة زعيما اصلاحيا يحمل هما انسانيا، هذا الهم الذي سرا فى جوانبه فأورثه الحلم والتواضع. هذا التواضع جعل نساء جوبرا يثقن به مع الوقت، فقد وجدوه رحيما بهم عطوفا عليهم، يداعب صغيرهم ويتودد إلى كبيرهم، يعاملهم كواحد منهم، حتى أنه نزل فى الطين بنفسه ليعلمهم كيفية زراعة الأرز.

وها هي مشاريع جرامين تطوف العالم، النامي منه والمتقدم على السواء، لتشهد ليونس بالنجاح. وقد تكللت جهوده بالفوز بجائزة نوبل فى عام 2006.

أثناء رحلتي التى دامت قرابة الشهرين فى كتاب عالم بلا فقر، أدركت أن هذا النجاح الذي حققه محمد يونس لم يكن محض حظ، ولكنه كان ثمرة العديد من العوامل التى تضافرت مع بعضها البعض لترسم لنا لوحة فنية ملأت العالم حسنا وزادته بهاءا.

أول هذه العوامل هو العلم الرصين والحصافة الاقتصادية التى كان يتمتع بهما يونس، فعلمه بالمناذج  الاقتصادية الصحيحة ساعده فى نهاية الأمر فى إقامة " بنك جرامين"، بالاضافة إلى إدراكه أن الجامعة كمستودع للمعرفة يجب أن تفيض بهذه المعرفة على المجتمع المحيط بها.

ثاني هذه العوامل، هو سرعة البدء وعدم اهدار طاقته فى شكليات لا تثمن ولا تغني من جوع، ففي البداية كانت فروع البنك عبارة عن مجرد كوخ بسقف من صفيح وبدون هاتف أو حمام أو ماء. وكان ذلك نابعا من سيطرة الغاية على يونس، فاتخذ أضعف الامكانات وسيلة لتحقيق هدفه والوصول لغايته.

ثالث هذه العوامل، هي سياسة العمل بالبنك التى وضعها يونس، حيث أن التعيين فى البنك يستلزم التعامل بشكل مباشر مع الفقراء، والتحدث إليهم بدون ورق أو أقلام أو ملابس فخمة، وهو ما شحذ همة موظفي البنك وذلك لاحتكاكهم المباشر بالفقراء ومعايشة معاناتهم، وفى نفس الوقت ولدّ احساسا لدى الفقراء بأن جرامين وموظفيه من جلدتهم مما كان له عظيم الأثر في التغلب على عادة البردة البنغالية.

رابع هذه العوامل هي السلطة والنفوذ، فحقيقة أن يونس كان رئيسا محترما لقسم الاقتصاد فى الجامعة كانت تطمئن الفقراء إلى حد كبير. فى الوقت نفسه فإن الأمور فى دولة تحتوى على 120 مليون نسمة كبنجلاديش تسير بواسطة عدد قليل من الأشخاص معظمهم من أصدقاء يونس فى المدرسة أو الجامعة. وكثيرا ما كانت هذه السمة السيئة من سمات المجتمع والسياسة فى بنجلاديش، تساعد "بنك جرامين" في التغلب على كثير من العقبات البيروقراطية التى كان يستحيل التغلب عليها بطرق أخرى.

خامس هذه العوامل هي الصبر والمثابرة، وإدراك أن النجاح لا يتحقق فى طرفة عين. فقد واجه يونس الكثير من المحبطين على طول الطريق، ففي أحد الأيام قال له أحد كبار المصرفيين أن ما يحاول القيام به ضرب من المستحيل، وأن ما يقدمه من قروض صغيرة شئ تافه بمالقارنة بالبنوك الوطنية الكبيرة. وأن جرامين لن ينجح أبدا. ولولا أن يونس يؤمن ايمانا صادقا بما يفعله لاستسلم وما وجدنا جرامين على صورته على التى عليها اليوم.

سادس هذه العوامل هو اختيار المكان المناسب للعمل، فقد اختار أفقر المناطق فى بنجلاديش لتكون مقرا لفروع بنك جرامين، وفى احدى جولاته لاختيار مقر لاقامة فرع جديد لبنك جرامين، وصل يونس إلى أشد القري فقرا وقال عنها ما نصه: لقد كان الناس شديدى الفقر والهزال إلى حد جعلني أوقن أنني قد جئت للمكان الصحيح، وأننا مطالبون فيه أكثر من أى مكان أخر، فمكاننا بين الفقراء وليس فى العاصمة فى المباني المكيفة. وبناء عليه قرر إنشاء فرع لبنك جرامين فى هذه القرية.
يكفينا فى هذا الصدد أن نعلم أنه أقام حفل افتتاح البنك الذي حضره رئيس الوزراء وكبار المسئولين فى الحكومة فى قرية جوبرا بين الفقراء ورفض اقامته فى العاصمة.

وأخيرا، فقد خطا يونس خطوات عديدة فى الطريق إلى عالم بلا فقر، وهو حلم ليس بالمستحيل، فكما نعيش الأن فى عالم بلا عبودية، وعالما خاليا من مرض الجدري، وعالما خاليا من التمييز العنصرى يمكننا خلق عالم بلافقر. ولكن علينا أن ندرك جيدا أن الطريق لن يكون سهلا، وعلينا أن نتحلي بالصبر. وعلي الدول أن تدعم المبادرات الخلاقة والمبدعة فى هذا الصدد. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة فى كتاب " افريقا والتحدي " (1) - أحمد داود

دولة المعاتيه - أحمد داود

تـحدي القـــيادة الافـــريقية بيـن تنظيـر زكـي وواقعيـة ماثـاي - أحمد داود